الثلاثاء، 24 يوليو 2012

راكين .. ظلال الحكاية




صورة لبلدة راكين
يحيى الحباشنة - في العام 1970 كانت قرية راكين لا تتعدى كونها كومة من الحجارة، تتراص الدور الطينية جنبا إلى جنب تفصلها أزقة ضيقة، أما السوق فبضع دكاكين صغيرة تصطف الواحدة تلو الأخرى لتشكل نسقا مألوفا مع البنية العمرانية بشكل عام.

ذاك المساء جاء منسجما مع عودة رعاة الأغنام، وصوت الأجراس المعلقة في أعناقها يمتزج بالثغاء وأصوات الرعاة، وزعيق الأطفال يشكل مقطوعة موسيقية طبيعية متناغمة.

أمام دكان حسين بن شنوان بسطة تشبه الدكة، يجلس عليها كريم بن حماد وبعض رجال القرية يلعبون السيجة، فيما تنتشر في الفضاء أصوات صرصار الليل ونقيق الضفادع في البركة التي تشبه المستنقع.

على تلك المسطبة تحاك الحكايات وتصنع، كنت أحب الجلوس في الأمسيات لأستمع إلى أحاديث الرجال حول وقائع مرت بهم ومصائب حلت عليهم، لدرجة أن ريقي يجف من هولها.
أشعل حسين فانوسا يعمل على الكاز، وجلست مسترخيا ومتناسيا الأوامر البيتية الصارمة في عدم الخروج من المنزل عند قدوم المساء.

سعل حمدو بشدة حتى توقع الجميع أنه سيموت لو استمر في سعاله.. لم يعد قادرا على استرداد أنفاسه، فتجمدت في مكاني أنتظر النتيجة المفجعة، لكنه بصق في النهاية مضغة بحجم صفار بيضة، قذفها بعيدا، وقال بلهجته القروية: لعنة الله على الدخان.. الهيشي ذبحني يا شينين.

اتركه ودخن شامي أحسن إلك وأخف، قال كريم وهو يفرك بباطن كفه ورق دخان الهيشي برائحته الفتاكة، إذ يكفي أن تجلس جواره حتى تنتابك نوبة عطس لا تنتهي.

كان الليل يلقي بثقله على المكان، انشغلت أراقب نجيمات بدت تظهر في السماء، فبدت وكأنها هي التي تصدر تلك الأصوات السيمفونية، فاستسلمت بكل حواسي لهذا المشهد البديع.

تنبهت بعد لحظات لوجود زعل، ولم ألحظ حضوره، فيما كان حسين يعلق الفانوس على الجدار مستخدما عصا دست بين الحجارة، لكن الفتيلة بدأت تخبو وتخرج سناجا أسود، مما دفع محمود إلى القول مداعبا: ما أجا فنيارك يخرب، إلا لما جانا زعل.
صاح كريم ممازحا: يا سيدي نوره كفاية.

لاذ زعل بصمت مطبق وهو يعبث بعلبة تبغه وقداحته بعصبية مفتعلة، فقال حسين متسائلا: شو مالك يا أبو محمد؟ إنت مش على عوايدك اليوم.
قال كريم: الله يستر من سوالفك.. أكيد صاير معك إشي غريب وعجيب.
حوقل زعل وفتح علبة تبغه، ووضع بين أصابعه النحيلة ورقة أوتومان، وفرك بأصابع يده الأخرى أوراق التبغ وقل: صار معي قصة لا تصدق.

مرت فترة صمت قبل أن يتابع قائلا: لما نزلت أمس على واد البكساسة* على حماري الأخضر...
قاطعه كريم: على حد علمي إن حمارك لونه أسمر.
بقولك حماري أخضر.. قد البغل، قول بغل يأ أخي. وعبر بحركة من يده اليمنى عن ارتفاع حماره. صاح محمود: حمار ولا بغل.. اترك الرجال يكمل السالفة. كانت مداخلة محمود كافية لأن يقوم زعل بإكمال لف سيجارته، وراح يبلل حافة السيجارة بطرف لسانه ويقرض أطرافها، ثم يغلق علبة التبغ بيده الأخرى ويضعها في زاوية فمه. هنا استحثه محمود قائلا: أكمل يا أبو محمد.

انشغل زعل في إشعال سيجارته، لكن قداحته لم تشتعل، وبعد محاولات فاشلة قال حسين وهو يتقدم ويشعل له السيجارة: إلك عندي نص دزينة حجار قداحة.. كمل القصة يا رجال. فاشتعلت سيجارة زعل، واسترسل في الحديث، وبدأ يسرد القصة بشكل مثير، فيما رحت أنا أتخيل الأحداث كما يرويها.
تخيلته يركب حمارا ضخما بحجم البغل، الظلام دامس، والحمار يشق طريقه نحو جبال الدير والحديب والعلام، تلك المحيطة بالقرية من الغرب، حيث لا إنس ولا جان. بعد كيلو مترات عدة تبدأ منحدرات خطيرة وشديدة الوعورة وموحشة، بين صخورها وفي كهوفها الكثيرة، تسكن ذئاب وضباع وابن آوى، وبين شجيرات الشيح والوسبى، تتخفى أفاع سامة تبحث عن فريسة لها.

تخيلته يحمل بندقية الموزار لتي يحرص على أن تكون جاهزة للاستعمال السريع في لحظة الخطر، ويحمل مصباحا يدويا يعمل على ست بطاريات جافة على حد زعمه. الظلام دامس، صوت وقع حوافر الحمار يرتفع، تتسارع الخطوات حينا وتتباطأ حينا.

يشعل سيجارته ويسحب نفسا عميقا منها، وأصوات ابن آوى يتردد صداها بين الوديان والمنحدرات بشكل يبعث على الرهبة، خيالات وذكريات، ومناظر موتى تتسرب إلى خياله المشحون برهبة المكان تناسب الحالة، يتذكر موت صديقه عطا، بل يراه شبحا ينتصب أمامه كل حين، أفكار موحشة تراوده وتمعن في الولوج إلى قعر جمجمته يغذيها جو مشحون بالوحشة.

توقف خيالي عن العمل عندما توقف زعل عن السرد، وامتدت يده إلى مكان علبة التبغ، غير أن محمود كان قد أعد له لفافة أشعلها وقدمها إليه. عدل زعل من جلسته، وتابع سرد بقية الحكاية:.
ولما وصلت للبكساسة نزلت المرشحة عن ظهر الحمار، ونزلت عنه الشداد ربطته وعلقت له عليقة الشعير، وفرشت المرشحة** في جنب بيت فقوس وحطيت حجر وسادة والبارودة في جنبي، واللوكس أبو ست بطاريات تحت راسي، وما صرت مرتمي على الجودلة إلا وأنا نايم.

ارتفعت يده إلى فمه وحاول إشعال سيجارته المطفأة، سبقه حسين لإشعالها من جديد، فسحب زعل نفسين عميقين وتابع: والله يا إخوان وأنا بين النايم والصاحي.. وإني بحس في إشي يدفعني ويلكزني في جنبي.
هنا بدأ خيالي ينشط من جديد، رأيته مستلقيا في تلك الرقعة من الأرض الموحشة، يده النحيلة تمتد بحرص وهدوء إلى المصباح، يده الأخرى تمتد إلى البندقية المجهزة للرماية، ينهض بسرعة خاطفة، يزيح بقدمه تلك الفرشة المتهرئة، يضيء المصباح، تنتشر بقعة ضوء دائرية الشكل على بقعة نومه، ويده الأخرى على الزناد.
صحوت من سرحاني وخيالي على صياحه وهو يقول: سددت البندقية وضويت اللوكس، يتعرفوا شو شفت..؟.
ابتلعت ريقي الجاف بصعوبة، في حين رد الجميع بالنفي، ثم عاد مسترخيا وقال بهدوء وبرود: كانت يا إخوان فقوسه تكبر... الفقوسة هي اللي كانت تدفعني في جنبي.

سرت همهمة بين الرجال وبدأت الضحكات تتعالى، لكن خيالي الطفولي راح يرسم لي فقوسه ضخمة تجتاح قريتنا وتحاصر الأطفال في منازلهم. تخيلت حينها فقوسة تدخل بيتنا من النافذة تزحف نحوي تنوي قتلي، ولم ينقذني من هذا الكابوس إلا صوت حسين وهو يقدم لزعل حجارة القداحة: تفضل يا زعل، هي حجار القداحة اللي وعدتك فيها.

نهض الرجال ضاحكين ينفضون الأتربة التي علقت بمؤخراتهم، ونهضت متكاسلا متثاقلا، متمنيا ألا تنتهي الأمسية، وسرعان ما عادت حسابات العودة إلى البيت، حيث عقاب عائلي صارم بانتظاري.


البكساسة: اسم منطقة زراعية تابعة لقرية راكين في محافظة الكرك.
** 
المرشحة: فرشة محاكة من الملابس القديمة توضع لوقاية ظهر الحمار من الأذى







صور لبلدة راكين





1 التعليقات:

سقا الله ايام راكين واهل راكين وعموم اهالي الكرك وخصوصا عشيرة الحباشنة الاوفياء الطيبين الصدوقين

إرسال تعليق